مقالات
د.فوزي يونس..شلالات المناخ: تسارع الانهيارات وتضخم الاحترار
بداية فإن عصر الأنثروبوسين يمثل المرحلة التي أصبح فيها التأثير البشري قوة جيولوجية رئيسية كما يشهد نظام الأرض تغيرات متسارعة تنذر باقترابه من نقاط تحول مناخية متتالية (Cascading Tipping Points). هذه التغيرات التي لم تعد نظرية بحتة بل واقعًا ملموسًا تتجلى في انتقال النظم البيئية الفرعية من حالة توازن هش إلى حالات اضطراب متسلسلة ذات طابع متطرف وغير رجعي. وما يزيد من خطورة هذا الوضع هو الترابط المعقد بين النظم الفرعية (Sub-systems) لكوكب الأرض حيث تؤدي تغيرات في نظام واحد إلى إحداث تحولات في أنظمة أخرى عبر آليات التغذية الراجعة.
1. ما المقصود بنقاط التحول في نظام الأرض؟
نقطة التحول المناخي (Tipping Point) هي الحد الذي إذا تم تجاوزه، يؤدي إلى تغير جذري ومفاجئ في سلوك النظام البيئي أو المناخي.
على سبيل المثال ذوبان الجليد في غرينلاند أو انهيار الغابات المطيرة في الأمازون أو تباطؤ التيارات المحيطية مثل تيار الخليج (Gulf Stream) تمثل جميعها أنظمة قد تصل إلى نقاط تحول لا رجعة فيها. وعند حدوث تغييرات متعددة في هذه الأنظمة تتفاعل فيما بينها بما يُعرف بـ "شلال الانحراف" وهو تسلسل من التغيرات يُغذي بعضها البعض ويؤدي إلى زعزعة استقرار النظام الأرضي برمّته.
2. كيف تحدث نقاط التحول المتتالية؟
تبدأ هذه التحولات من تغيرات صغيرة في نظام فرعي معين كارتفاع درجات الحرارة في القطب الشمالي مما يؤدي إلى ذوبان الجليد البحري، ويقلل من قدرة سطح الأرض على عكس أشعة الشمس (ظاهرة البياض الجليدي). هذا يؤدي إلى امتصاص أكبر للطاقة الشمسية وزيادة الاحترار.
مع مرور الوقت تجبر هذه التغيرات أنظمة أخرى على التغير أيضا مثل زيادة انبعاثات الميثان من التربة الصقيعية الذائبة أو تدهور الغابات الاستوائية بسبب موجات الجفاف وحرائق الغابات. ومع زيادة الترابط بين هذه الأنظمة تتسارع "الاتصالات عن بعد" (Teleconnections) وهي تفاعلات مناخية تحدث بين مناطق متباعدة جغرافياً.
3. أثر ذلك على الاحترار العالمي
تؤدي هذه السلسلة من التفاعلات غير الخطية إلى تضخيم ظاهرة الاحتباس الحراري حيث تتحول الأنظمة التي كانت تعمل كعازل مناخي – مثل المحيطات والغابات – إلى مصدر إضافي لانبعاثات الكربون.
فعلى سبيل المثال:
* المحيطات تفقد قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون.
* الغابات المدارية تتحول من مصارف للكربون إلى مصادر له.
* التربة الصقيعية تطلق كميات ضخمة من الميثان وهو غاز دفيئة أقوى من ثاني أكسيد الكربون بعشرات المرات.
4. تسارع الأحداث المناخية المتطرفة
نتيجة لتكثف الاتصالات بين النظم نشهد الآن تسارعاً في وتيرة الأحداث المناخية المتطرفة مثل:
* موجات الحرارة الشديدة (Heatwaves)
* الفيضانات المفاجئة
* الأعاصير واسعة النطاق
* حرائق الغابات الخارجة عن السيطرة
وهذه ليست مجرد ظواهر منعزلة بل أصبحت أحداثًا مركبة (Compound Events) تتغذى على بعضها وتدفع النظم البيئية إلى حالات انهيار وظيفي (Functional Collapse).
5. لماذا يحدث كل شيء بسرعة الآن؟
يرجع التسارع في التغيرات المناخية إلى ما يعرف بـ رد الفعل الإجباري للنظام (Forced System Response) حيث تفرض التحولات السريعة في الأنظمة الديناميكية على الأنظمة البطيئة الاستجابة أن تتغير بدورها بسرعة. وهذا يولد حالة من التضخيم الذاتي للتغير المناخي، تُفقد فيها الأرض مرونتها الطبيعية (Earth System Resilience) في مواجهة الصدمات.
6. الرسالة العلمية: التحذير من المسار نحو "نظام الأرض الساخن"
كما يظهر من مسارات نظام الأرض في الأنثروبوسين (Earth System Trajectories in the Anthropocene) فإننا نواجه الآن خيارا حاسما:
إما أن نعيد النظام الأرضي إلى مسار "كوكب قابل للعيش" من خلال تدخلات جذرية
أو نسمح بانحداره إلى حالة "نظام أرض ساخن" (Hothouse Earth) حيث يتجاوز الاحترار العالمي +2 درجة مئوية، وتتوالى التحولات المناخية بشكل غير قابل للإيقاف
وفي النهاية فنحن نعيش في زمن قرارات حاسمة فمستقبل الأرض لم يعد يرسم خلال قرون بل خلال عقود قليلة. كما إن تحولات النظام الأرضي المتسارعة نتيجة تغذية راجعة متبادلة بين النظم الفرعية تمثل تهديدا وجوديا للبشرية. كما أن نقاط التحول المتتالية للأرض تسارع الشلالات المناخية وتعمل علي تضخيم الاحترار العالمي.
ولتفادي الوقوع في دوامة نقاط التحول المتتالية علينا تبني إجراءات فورية وجذرية لخفض الانبعاثات واستعادة التوازن الطبيعي للنظم البيئية وتعزيز صمود الكوكب أمام التغيرات القادمة.